غض البصر في الإسلام

حديث الرسول عن غض البصر

يُعتبر الحديث عن غض البصر من أبرز المواضيع التي تناولتها الشريعة الإسلامية في حديثها عن تزكية النفس والتحكم في الغرائز. يُعدُّ غض البصر من أهم القيم الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام، حيث يعكس هذا السلوك مستوى عميقًا من التقوى والورع، ويُعدُّ من أدوات الحفاظ على الأخلاق المجتمعية والفردية في نفس الوقت. فقد وردت العديد من الأحاديث النبوية التي تؤكد على ضرورة ضبط النظر وحمايته من الوقوع في محارم الله، من خلال الكف عن النظر إلى ما حرمه الله.

تعريف غض البصر في الإسلام

غض البصر هو التوجيه الطوعي للنظر بعيدًا عن المحارم، سواء كان ذلك النظر إلى الرجال أو النساء أو إلى أي شيء محرم في الإسلام. يعني ذلك أن المسلم مطالب بتوجيه نظره في الاتجاه الصحيح والابتعاد عن النظر إلى ما يثير الفتنة أو الرغبات المحرمة التي قد تقوده إلى المعاصي. قد يشمل هذا النظر إلى الزينة المحرمة أو حتى الأفلام والصور التي تروج للفساد.

الآيات القرآنية عن غض البصر

قبل أن نغوص في الأحاديث النبوية المتعلقة بغض البصر، نجد أن القرآن الكريم قد وضع الأساس لهذه القيمة في العديد من الآيات التي تحث المسلمين على ضبط أعينهم. من أبرز هذه الآيات:

• قوله تعالى:
  
  “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ” (النور: 30).
  
  هذه الآية تُعدُّ من أبرز ما حث فيه الله عز وجل المؤمنين على غض البصر. وتدعو الآية الرجال إلى النظر بحذر وعدم التطلع إلى ما لا يحل لهم، ويشمل ذلك الفتاة أو المرأة غير المحارم.

• قوله تعالى:
  
  “وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ” (النور: 31).
  
  كما ورد في القرآن أيضًا التوجيه نفسه للمؤمنات، حيث يُطلب منهن أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، وفي ذلك تحقيق لصون الطهارة والعفاف في المجتمع.

هذه الآيات القرآنية تلقي الضوء على أهمية غض البصر كجزء من مفهوم العفة والطهارة في الإسلام، وتحث المسلمين والمسلمات على الابتعاد عن كل ما قد يثير الفتنة أو يضعهم في موضع الشبهة.

الحديث النبوي الشريف عن غض البصر

ورد في الحديث النبوي العديد من الأحاديث التي تتعلق بغض البصر، حيث كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قدوة في هذا المجال، وكان يحرص على تعليم الصحابة أهمية الحفاظ على البصر. من أبرز هذه الأحاديث:

• عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:
  
  “يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه، لا تؤذي المسلمين ولا تعيّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته.”
  
  هذا الحديث يبين أهمية عدم تتبع العورات سواء كانت هذه العورات في العالم الواقعي أو عبر النظر في المظاهر التي قد تجر إلى الفتن. هذا الحديث يعكس بشكل غير مباشر ضرورة غض البصر وتجنب النظر إلى ما يفسد القلب.

• عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
  
  “إنما العينان تزنيان وزناهما النظر.”
  يشير هذا الحديث إلى أن العين تُعدُّ مصدرًا من مصادر الفتنة إذا لم تُحسن استخدامها. وبالتالي، فإن النظر إلى المحرمات يُعدُّ من “الزنا” بالنظر، وهو أمر يوجب التوبة والابتعاد عن تلك النظرات.

• عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال:
  
  “لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة.”
  في هذا الحديث، يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن النظرة الأولى قد تحدث دون قصد أو بسبب ظروف معينة، ولكن تكرار النظر أو الاستمرار فيه هو المحرم الذي يجب تجنبه.

أثر غض البصر في حياة المسلم

غض البصر ليس مجرد التزام ديني، بل له أثر كبير في حياة المسلم على مختلف الأصعدة. من أبرز آثار غض البصر:

1. تقوية الإيمان:
   
   يشعر المسلم الذي يلتزم بغض البصر بأنه في معية الله، ويعزز ذلك تقواه وورعه. يتولد في قلبه شعور بالطمأنينة لأنه يبتعد عن المحارم التي قد تلوث قلبه وتؤثر على صفاء إيمانه.

2. حفظ المجتمع:
   
   من خلال غض البصر، يساهم الفرد في الحفاظ على عفة المجتمع ونقاء العلاقات فيه. إذا كانت العين تحترم حدود الله، فإنها تساهم في تقليل الفتن والتجاوزات الأخلاقية التي قد تزعزع استقرار المجتمع.

3. تنقية القلب:
   
   يتيح غض البصر للإنسان أن يبتعد عن المثيرات التي قد تملأ قلبه بالحسد، والشهوة، والفتنة. وبالتالي، يُطهر قلبه ويصون نفسه من الضلال والفساد.

4. سلامة الفرد:
   
   النظر إلى ما لا يحل يؤدي في كثير من الأحيان إلى ما هو أخطر من ذلك؛ فقد يؤدي إلى الانجراف وراء الشهوات التي تفضي إلى المعاصي الكبرى. بينما يعمل غض البصر على تجنيب المسلم هذه المخاطر وحمايته من الوقوع في التورط في الزنا أو الممارسات غير الأخلاقية.

غض البصر كأداة للوقاية من الفتن

تعد الفتن من أخطر ما قد يتعرض له المسلم في عصرنا الحالي، خاصة مع ما تحويه وسائل الإعلام من مشاهد مثيرة للأحاسيس والشهوات. ومع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الفتن أكثر تنوعًا وتعقيدًا. في هذا السياق، يصبح غض البصر أكثر ضرورة من أي وقت مضى، حيث يساعد المسلم على الوقاية من التأثيرات السلبية لهذه الفتن، ويبقيه بعيدًا عن التأثيرات السلبية للصور والمشاهد المحرمة.

غض البصر في هذا العصر لا يقتصر على النظر المادي فقط، بل يشمل أيضًا تجنب التعرض لما هو محرم عبر الوسائل الإلكترونية. وهذا يعني أن المسلم مطالب بحماية عينه في كل مكان وزمان، سواء في حياته اليومية أو في العالم الافتراضي.

العوامل التي تعين على غض البصر

غض البصر ليس أمرًا سهلاً في هذا العصر الذي يغلب عليه الطابع المادي والمرئي، ولكنه ليس أمرًا مستحيلًا. وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تساعد المسلم في الالتزام بغض البصر، مثل:

• التقوى والورع:
  
  إن التزام المسلم بتقوى الله والابتعاد عن المحارم هو العامل الأكبر الذي يساعد على غض البصر. عندما يعمق المسلم شعوره بالتقوى، يصبح غض البصر أمرًا سهلاً لأنه يرتبط بالخوف من الله.

• الذكر والدعاء:
  
  من خلال الدعاء والذكر، يمكن للمسلم أن يطلب من الله العون على التحكم في نفسه وغض بصره. الدعاء في هذه الحالات يكون بمثابة حماية للشخص من التعرض للأشياء المحرمة.

• التوجيه الديني والتربية الأخلاقية:
  
  إن التربية على القيم الدينية في مرحلة الطفولة تُعدُّ من العوامل الأساسية التي تساعد في تعزيز سلوك غض البصر. فالآباء والمربون في الإسلام يعوّلون على تأسيس أولادهم على احترام الحدود الشرعية والابتعاد عن المحرمات.

• التقليل من المثيرات:
  
  يساعد المسلم نفسه في تجنب الأماكن والمواقف التي قد تثير فيه رغبة النظر إلى ما لا يحل. فاختيار المكان والطريقة التي يلتقي بها الآخرين، والتجنب في تصفح المواقع أو التطبيقات المهيئة للفتنة، يعد من العوامل المهمة في غض البصر.

خاتمة

إن غض البصر في الإسلام هو أكثر من مجرد فعل، بل هو سلوك يعبّر عن درجة عالية من الوعي الديني والروحي، ويسهم في بناء مجتمع طاهر ومستقيم. ومن خلال الأحاديث النبوية الشريفة، ندرك أن هذه القيمة ليست مسألة سطحية، بل هي من الأسس التي يجب أن تحكم تصرفات المسلمين في حياتهم اليومية.